شرح حديث "
تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى "
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال : ( إن الله تعالى يقول : يا بن آدم تفرغ لعبادتي أملأ
صدرك غنى وأسدُّ فقرك ، وإلا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك ) . تخريج
الحديث
رواه الترمذي و ابن ماجة والإمام أحمد في مسنده وغيرهم ، وقال الترمذي حسن
غريب ، وصححه الألباني .
معاني
المفردات
تفرغ لعبادتي : تفرغ من مهماتك وأشغالك الدنيوية لطاعتي والتقرب إلي
بأنواع القرب .
أملأ صدرك : أي قلبك .
عز
العبودية
عبادة الله هي المهمة العظيمة التي من أجلها خُلق الخلق ، وهي بمفهومها
الشامل لا تقتصر على أداء الشعائر التعبدية - من صلاة وصيام وحج وذكر وغير
ذلك - فحسب ، ولكنها تمتد لتنتظم حياة الإنسان كلها بشتى جوانبها وأنشطتها
بحيث لا يخرج شيء منها عن دائرة التعبد لله رب العالمين ، وتمتد كذلك لتشمل
جميع ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة :{قل إن
صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين }(الأنعام 162) .
ولا يبلغ الإنسان ذروة الكمال البشري في العزّة
والشرف والحرية حتى يحقق هذه الغاية ، وقد وصل إلى هذا الكمال أنبياء الله
ورسله عليهم الصلاة والسلام ، وفي مقدمتهم نبيّنا محمَّدٌ - صلى الله عليه
وسلم - ، الذي خاطبه ربُّه جل وعلا في أعلى مقاماته - مقامِ تلقي الوحي
ومقامِ الإسراء - بوصف العبودية ، باعتبارها أرقى وأعظم وأشرف منزلة يرقى
إليها الإنسان ، فقال سبحانه : {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم
يجعل له عوجا }(الكهف 1) ، وقال في مقام آخر : {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا
}( الاسراء 1) ، وكلما ازداد العبد تحقيقاً لهذه العبودية كلما ازداد
كماله وعلت درجته .
وكل من تعلّق قلبه بمخلوق وأحبَّه ، وعلق عليه
نفعه وضرَّه فقد وقع في ربقة الرقّ والعبودية له ، شاء أم أبى ، إذ الرقّ
والعبودية في الحقيقة ، هو رقُّ القلب وعبوديته ، ولهذا يُقال: " العبد
حرٌّ ما قنع والحرُّ عبدٌ ما طمع " ، وكلّما قوي طمع العبد في فضل الله
ورحمته ورجائه في قضاء حاجاته ، كلما قويت عبوديته وحريته عمَّا سواه ، كما
قيل : " احتج إلى من شئت تكن أسيره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، وأحسن
إلى من شئت تكن أميره " .
حقيقة الغنى
ولهذا فإن حقيقة الغنى إنما هي في القلب ، وهي
القناعة التي يقذفها الله في قلوب من شاء من عباده ، فيرضون معها بما قسم
الله ، ولا يتطلعون إلى مطامع الدنيا أو يلهثون وراءها لهث الحريص عليها
المستكثر منها .
وقد بين ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله : ( ليس
الغنى عن كثرة العرَض ، ولكن الغنى غنى النفس ) كما في البخاري ، وقال لأبي
ذر : ( أترى أن كثرة المال هو الغنى ؟! إنما الغنى غنى القلب ، والفقر فقر
القلب ، من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا ، ومن كان الفقر
في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا ، وإنما يضر نفسه شحها ) رواه ابن
حبان وصححه الألباني .
وكم من غني عنده ما يكفيه وأهله عشرات السنين ،
ومع ذلك لا يزال حريصاً على الدنيا ، يخاطر بدينه وصحته ، ويضحي بوقته
وجهده ، وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس ، مع أنه قد لا يجد قوت غده ،
فالقضية إذاً متعلقة بالقلوب وليست بما في الأيدي .
يقول عمر رضي الله عنه : " إن الطمع فقر ، وإن
اليأس غنى ، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه " ، وسئل أبو حازم
فقيل له : ما مالُك ؟ قال : لي مالان لا أخشى معهما الفقر : الثقة بالله ،
واليأس مما في أيدي الناس " ، وقيل لبعض الحكماء : ما الغنى ؟ قال : " قلة
تمَنِّيك ، ورضاك بما يكفيك " ، وقد أحسن من قال :
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ****** مخافة فقر
فالذي فعل الفقر
بين همَّيْن
وهذا الحديث العظيم يضع للعبد علاجاً عظيماً
للهموم والغموم التي يتعرض لها في حياته الدنيا ، هذا العلاج هو الاشتغال
بما خلق له وهو عبادة الله عز وجل ، والاهتمام بأمر الآخرة ، فإن العبد إذا
شغله همُّ الآخرة أزاح الله عن قلبه هموم الدنيا وغمومها ، وخفف عنه
أكدارها وأنكادها ، فيصفو القلب ويتجرد من كل الأشغال والصوارف ، يقول -
صلى الله عليه وسلم - : ( من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله
سائر همومه ، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي
أوديتها هلك ) رواه ابن ماجة وغيره بسند حسن .
وفي حديث الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال : قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في
قلبه ، وجمع له شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همه جعل
الله فقره بين عينيه ، وفرق عليه شمله ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له )
صححه الألباني .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " إذا أصبح
العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمّل الله عنه سبحانه حوائجه كلها ،
وحمَل عنه كلّ ما أهمّه ، وفرّغ قلبه لمحبته ، ولسانه لذكره ، وجوارحه
لطاعته ، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها
ووكَلَه إلى نفسه ..... " .
فعلى العبد أن يقنع بما قسم الله له ، وأن يثق
بوعد الله وحسن تدبيره له ، وألا يكون شديد الاضطراب والخوف مما يستقبل ،
فالمستقبل بيد الله ، وأن ينظر إلى من هو دونه في أمور الدنيا ، وليستعن
على ذلك بقصر الأمل واليقين بأن الرزق الذي قُدِّر له لا بد وأن يأتيه وإن
لم يشتد حرصه ، فليست شدة الحرص هي السبب لوصول الأرزاق .